قلم : سمية عبد الرزاق
اعتلى فرسهُ ووثب عليه وكأنه يريد الطيران به لشدّة سرعته وعنفوان غضبه في تلك اللحظة، وأثناء ذلك ردّد بحنق في نفسه : "إما أن يقتل وإما أن يكفّ عمّا يفعل ولا خيار آخر"
وانطلق يعدو تلك الأميال بخفّة، وكأنما الارضُ طويت لتستقبله ليرجع شخصاً آخر وبوجهٍ آخر، ويا للمفاجأة! فقد كان مُصعب ينتظره على أحرّ من الجمر، وعرف فور رؤيته وهو قادم على فرسه من بعيد وعلى وجهه علامات الغضب، نجاح خطة أسيد بن حضير الذي أسلم على يديه قبل ساعات، والذي استفزّ سعد بن معاذ ليأتي بنفسه فيسمع هذا الحديث .
استقبله مصعب بوجهٍ بشوش كعادته دائماً، لكنّ سعداً بن معاذ بادره بقول ٍغليظ وبكلماته التي جهزها في طريقه فقال مهدداً مصعب: "إمّا أن تكفّ عنّا وإما أن نقتلك!"، فما كان من مصعب إلا أن قال بكلماته الليّنة التي تنزل على القلب فتخفت وطأة غضبه :"أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرنا قبلته؛ وإن لم ترضه كففنا عنك ما تكره" ، ردّ سعد وهو يومئ برأسه إعجابا بدبلوماسيته : "ولم لا !"
وجلس سعد يستمع إلى حديث مصعب الذي قام يخبره عن الإسلام وعن روعة هذا الدين الحنيف، فكانت تلك الكلمات بثقلها تخترق قلب سعد فتصل إلى أعماقه لتكسر قفل قلبه وينكشف النور ككوكب دريّ، فيستبشرُ وجهه وتلمع أساريره، فيقول بلهفة العاطش الذي وجد ماءاً يطفي ظمأ مشقة الطريق: "كيف يفعل من يريد الدخول في هذا الدين؟"
قال مصعب متهللاً فرحاً : "اغتسل وتطهّر واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وسلم )" ففعل، ثم خرج من عنده عاقداً النيّة أن يسلم كل بني عبد الأشهل .
وعندما عاد لقومه جمعهم في مجلسهم المعتاد وقام قائلاً فيهم بصلابة المسلم وحزمه : "كيف تعلمون أمري فيكم؟"
قالوا: "سيدنا وأفضلنا رأياً وخيرنا وأيمننا"، ردّ قائلا : "فإن كلامكم عليّ حرام رجالكم والنساء، حتّى تؤمنوا بالله الذي لا إله إلا هو وتصّدقوا برسالة محمد (صلى الله عليه وسلم )، تناقل القوم الخبر، وانتشر كسرعة النار في الهشيم، وأراد الله أن يتّم نوّره عليهم فلم يبقَ رجلٌ ولا إمرأة في تلك الليلة إلا مسلمٌ ومسلمة .
علم سعد بن معاذ مهمته منذ نطقه الشهادة، علم مالذي يجب فعله لنشر الدين، أدرك حجم كلمته وقوتها على قومه فأسلم قومه بإسلامه !
وفي السنة الثانية للهجرة والتي شهدت أحداث غزوة بدر، طلب النبي صلى الله عليه وسلم المشورة قبل الحرب، فقام كل من أبو بكر وعمر والمقداد بن عمرو وقالوا وأشاروا وأحسنوا الكلام، إلا أنهم كانوا من المهاجرين، فقال الرسول عليه السلام "اشيروا عليّ أيها الناس " فقال سعد بن معاذ زعيم الأنصار : "والله لكأنّك تريدنا يا رسول الله" فقال "أجل " فقال سعد : "لقد آمنا بك و صدّقناك وشهدنا على ما جئت به وهو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا، فامضِ يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر، فخضته لخضناه معك ما تخلّف منّا رجلٌ واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنّا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ في اللقاء، ولعلّ الله يريك منّا ما يقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله ".
فسّر الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سمع كلام سعد ورقيّه ثم قال "سيروا وأبشروا فإنّ الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنّي الآن أنظر إلى مصارع القوم" [أحمد وابن هشام].
وتوالت الأيام وانتهت غزوة الخندق بهزيمة المشركين، وبعد الغزوة ذهب الرسول هو وصحابته لحصار بني قريظة الذين تآمروا مع المشركين على المسلمين، وخانوا عهد الرسول، وغدروا بالمسلمين، وجعل الرسول سعد بن معاذ يحكم فيهم، فأقبل سعد يحملونه وهو مصاب، وقال: "لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم". ثم التفت إلى النبي وقال: "إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى ذراريهم ونساؤهم"، فقال الرسول : "لقد حكمت فيهم بحكم الله" [ابن عبدالبر].
ثم يموت سعد بن معاذ -رضي الله عنه- ويلقى ربه شهيدًا من أثر السهم، وأخبر الرسول صحابته أن عرش الرحمن قد اهتز لموت سعد، وجاء جبريل إلى رسول الله وقال له: "من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واستبشر به أهلها؟"
وأسرع النبي وأصحابه إلى بيت سعد ليغسلوه ويكفنوه، فلما فرغوا من تجهيزه والصلاة عليه، حمله الصحابة فوجدوه خفيفًا جدًّا، مع أنه كان ضخمًا طويلاً، ولما سُئل الرسول عن ذلك قال: "إن الملائكة كانت تحمله" [ابن عبد البر]، وقال : "شهده سبعون ألفًا من الملائكة" [ابن عبد البر].
وجلس الرسول على قبره، فقال: (سبحان الله) مرتين، فسبح القوم ثم قال: (الله أكبر) فكبروا، وقال النبي: "لو نجا أحد من ضغطة القبر، لنجا منها سعد بن معاذ" [ابن عبد البر]. وكانت وفاته -رضي الله عنه- سنة (5هـ)، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، ودفن بالبقيع.
هذا هو سعد بن معاذ الذي عاش بالإسلام ست سنوات، ست سنوات ماذا فعلت بها يا سعد ليكون لك هذا السجّل العظيم؟! ماذا فعلت لتنال هذا التكريم الإلهي! وأقول إنها لنعمةٌ مستقرّها القلب وعمل ٌ بينه وبين الله، فنال به هذه الدرجات وهذا الثواب ، ولنا لقاء يا سعد هناك تحت أشجارالجنّة.
وانطلق يعدو تلك الأميال بخفّة، وكأنما الارضُ طويت لتستقبله ليرجع شخصاً آخر وبوجهٍ آخر، ويا للمفاجأة! فقد كان مُصعب ينتظره على أحرّ من الجمر، وعرف فور رؤيته وهو قادم على فرسه من بعيد وعلى وجهه علامات الغضب، نجاح خطة أسيد بن حضير الذي أسلم على يديه قبل ساعات، والذي استفزّ سعد بن معاذ ليأتي بنفسه فيسمع هذا الحديث .
استقبله مصعب بوجهٍ بشوش كعادته دائماً، لكنّ سعداً بن معاذ بادره بقول ٍغليظ وبكلماته التي جهزها في طريقه فقال مهدداً مصعب: "إمّا أن تكفّ عنّا وإما أن نقتلك!"، فما كان من مصعب إلا أن قال بكلماته الليّنة التي تنزل على القلب فتخفت وطأة غضبه :"أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرنا قبلته؛ وإن لم ترضه كففنا عنك ما تكره" ، ردّ سعد وهو يومئ برأسه إعجابا بدبلوماسيته : "ولم لا !"
وجلس سعد يستمع إلى حديث مصعب الذي قام يخبره عن الإسلام وعن روعة هذا الدين الحنيف، فكانت تلك الكلمات بثقلها تخترق قلب سعد فتصل إلى أعماقه لتكسر قفل قلبه وينكشف النور ككوكب دريّ، فيستبشرُ وجهه وتلمع أساريره، فيقول بلهفة العاطش الذي وجد ماءاً يطفي ظمأ مشقة الطريق: "كيف يفعل من يريد الدخول في هذا الدين؟"
قال مصعب متهللاً فرحاً : "اغتسل وتطهّر واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وسلم )" ففعل، ثم خرج من عنده عاقداً النيّة أن يسلم كل بني عبد الأشهل .
وعندما عاد لقومه جمعهم في مجلسهم المعتاد وقام قائلاً فيهم بصلابة المسلم وحزمه : "كيف تعلمون أمري فيكم؟"
قالوا: "سيدنا وأفضلنا رأياً وخيرنا وأيمننا"، ردّ قائلا : "فإن كلامكم عليّ حرام رجالكم والنساء، حتّى تؤمنوا بالله الذي لا إله إلا هو وتصّدقوا برسالة محمد (صلى الله عليه وسلم )، تناقل القوم الخبر، وانتشر كسرعة النار في الهشيم، وأراد الله أن يتّم نوّره عليهم فلم يبقَ رجلٌ ولا إمرأة في تلك الليلة إلا مسلمٌ ومسلمة .
علم سعد بن معاذ مهمته منذ نطقه الشهادة، علم مالذي يجب فعله لنشر الدين، أدرك حجم كلمته وقوتها على قومه فأسلم قومه بإسلامه !
وفي السنة الثانية للهجرة والتي شهدت أحداث غزوة بدر، طلب النبي صلى الله عليه وسلم المشورة قبل الحرب، فقام كل من أبو بكر وعمر والمقداد بن عمرو وقالوا وأشاروا وأحسنوا الكلام، إلا أنهم كانوا من المهاجرين، فقال الرسول عليه السلام "اشيروا عليّ أيها الناس " فقال سعد بن معاذ زعيم الأنصار : "والله لكأنّك تريدنا يا رسول الله" فقال "أجل " فقال سعد : "لقد آمنا بك و صدّقناك وشهدنا على ما جئت به وهو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا، فامضِ يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر، فخضته لخضناه معك ما تخلّف منّا رجلٌ واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنّا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ في اللقاء، ولعلّ الله يريك منّا ما يقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله ".
فسّر الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سمع كلام سعد ورقيّه ثم قال "سيروا وأبشروا فإنّ الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنّي الآن أنظر إلى مصارع القوم" [أحمد وابن هشام].
وتوالت الأيام وانتهت غزوة الخندق بهزيمة المشركين، وبعد الغزوة ذهب الرسول هو وصحابته لحصار بني قريظة الذين تآمروا مع المشركين على المسلمين، وخانوا عهد الرسول، وغدروا بالمسلمين، وجعل الرسول سعد بن معاذ يحكم فيهم، فأقبل سعد يحملونه وهو مصاب، وقال: "لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم". ثم التفت إلى النبي وقال: "إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى ذراريهم ونساؤهم"، فقال الرسول : "لقد حكمت فيهم بحكم الله" [ابن عبدالبر].
ثم يموت سعد بن معاذ -رضي الله عنه- ويلقى ربه شهيدًا من أثر السهم، وأخبر الرسول صحابته أن عرش الرحمن قد اهتز لموت سعد، وجاء جبريل إلى رسول الله وقال له: "من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واستبشر به أهلها؟"
وأسرع النبي وأصحابه إلى بيت سعد ليغسلوه ويكفنوه، فلما فرغوا من تجهيزه والصلاة عليه، حمله الصحابة فوجدوه خفيفًا جدًّا، مع أنه كان ضخمًا طويلاً، ولما سُئل الرسول عن ذلك قال: "إن الملائكة كانت تحمله" [ابن عبد البر]، وقال : "شهده سبعون ألفًا من الملائكة" [ابن عبد البر].
وجلس الرسول على قبره، فقال: (سبحان الله) مرتين، فسبح القوم ثم قال: (الله أكبر) فكبروا، وقال النبي: "لو نجا أحد من ضغطة القبر، لنجا منها سعد بن معاذ" [ابن عبد البر]. وكانت وفاته -رضي الله عنه- سنة (5هـ)، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، ودفن بالبقيع.
هذا هو سعد بن معاذ الذي عاش بالإسلام ست سنوات، ست سنوات ماذا فعلت بها يا سعد ليكون لك هذا السجّل العظيم؟! ماذا فعلت لتنال هذا التكريم الإلهي! وأقول إنها لنعمةٌ مستقرّها القلب وعمل ٌ بينه وبين الله، فنال به هذه الدرجات وهذا الثواب ، ولنا لقاء يا سعد هناك تحت أشجارالجنّة.