قلم : سمية عبد الرزاق
قبل تسللَّ ضوء النّهار، تمتزج الغيوم وتختلط رويداً رويداً، يبدأ الفجر بالبزوغ، ليشدو ذلك الصوت برقّة بتلك الآيات العظيمة. نعم إنه قرآن الفجر، فقد كان لها معه قصّة عجيبة.
ما إن سمعت نداء التوحيد حتّى تمسّكت به، ولبّته بقوّة، وكانت من أوائل الأنصاريات إيماناً وإسلاماً. فانصرفت تتلو آيات الله آناء الليل وأطراف النهار، تلك العابدة التقيّة. ولم تكتف بهذا، بل أخذت تجمع القرآن وتتدبّر معانيه، وتتقن فهمه وحفظه والعمل به. لك أن تتخيّل جمال ذلك القلب الذي شغل بحب القرآن، فهذه كانت همّتها إيمانا وعملاً، لا سيلاً من الكلمات.
انّها أم ورقة بنت عبدالله بن الحارث بن عويمر بن نوفل الأنصارية، هي واحدة من الأنصاريّات اللاتي سطّرن أروع الصفحات في تاريخ الإسلام، فلقد كانت من فضليات نساء عصرها. كان بيتها يرتع بالوافدات المهاجرات والأنصاريّات اللاتي يأتين للصلاة ومدارسة القرآن مع امرأة مثلها، تقيّة حافظة لكتاب الله.
تاقت نفسها للشهادة، فذهبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما غزا بدراً فقالت له : "ائذن لي فأخرج معك فأمرّض مرضاكم، لعلّ الله أن يرزقني الشهادة. فقال لها الرسول لحكمة يعلمها الله : " قري في بيتك فإن الله يرزقك الشهادة " وفي رواية اخرى قال : "يا أمّ ورقة اقعدي في بيتك فإن الله سيهدي إليك شهادة في بيتك" [الطبراني] هل يا ترى توقّفت هنا؟ ..لا بل سبقتها همتّها لعمل شيء آخر، ثغرة أخرى تسدّها، فأردفت تستأذن النّبي أن تتخذ في دارها مؤذناً، فأذن لها النّبي وأمرها أن تؤمّ أهل دارها وتصلّي بهم فكانت تؤم المؤمنات الوافدات إليها.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقدّر هذه الصحابيّة الجليلة، وليس ذلك فحسب.. بل أراد أن يعرف الجميع مكانتها وإتقانها بين الصحابة، حتّى انّه أمر بأداء الصلاة في بيتها، يا لها من نعمة ويا له من فضل !
غدت أم ورقة تعرف بين النّاس بالشّهيدة وكان النبي إذا أراد زيارتها اصطحب معه ثّلة من أصحابه الكرام، فيقول لهم :" انطلقوا بنا نزور الشهيدة" [الألباني] فكانت بذلك التشريف النبويّ تطير فرحاً، وتطمئن نفساً، بذلك اللقب وهذه البشارة التي جاءت بين يديها، مصداقاً لقول الذي لا ينطق عن الهوى.
لم تتزوج أم ورقة، وعاشت في دارها الفسيحة مع غلام وجارية يقومان على خدمتها، وكانت تعاملهما معاملة كريمة، وتعطف عليهم عطف الأم على أولادها، وكانت دائما تقول لهم أنّكم بعد موتي حرّان. ولكن يبدو أن الفتى والفتاة استعجلا موتها ليصبحا أحراراً، فسوّلت لهما نفسهما فقتلاها في بيتها، فماتت شهيدة الظلم والغدر .
وكان عمر ابن الخطّاب يتفقّدها ويزورها عندما يتفقّد vعيّته اقتداءا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن عادته أن يتردد حول جنبات دارها ويسمع صوتها قبيل بزوغ الفجر فيقول :هذا صوت خالتي أم ورقة! واستغرب مرّة انقطاع سماع صوتها يوما فقال : "والله ما سمعت قراءة خالتي أم ورقة البارحة"، فدخل بيتها فإذا هي ملفوفة في قطيفة بجانب البيت، فقال : "صدق الله ورسوله" ثمّ صعد على المنبر وذكر الخبر، وأمر أن يؤتى بهما، فأتي بهما فقتلا .
وأقول هنا بيتا لأحد الشعراء، في مقام الشهداء ..
لا تبكه فاليوم بدأ حياته إن الشّهيد يعيش يوم مماته !
أرادت الشّهادة فنالتها..عسى الله أن يجمعنا بها في أعالي الجنان.