قصة قصيرة
بقلم : بتول الطاهر
كان لقاء ريتا بصالحة حين عادت عائلة دانيال إلى حيفا بعد أن كانوا قد سافروا إلى روسيا فترة طويلة ليكمل دانيال دراساته العليا. كانت صالحة في زيارة مع العائلة إلى البحر في الإجازة السنوية، أو حين تُعطى التصاريح لعرب القدس و الضفة.
صالحة من غزة، لكنها مقيمةٌ في القدس. تعرّفت ريتا على صالحة و بَنَتا خلال التواصل على أحد الشبكات الاجتماعية علاقةً وطيدة. ولعل من أحد الأسباب التي ساعدت على بناء تلك العلاقة سريعاً أن صالحة مثل ريتا،" فلسطينية يهودية". و لكن عائلتها من جماعةٍ يهوديةٍ مختلفة تسمى "الحريديون"، تعد هذه الطائفة جماعةً معارضَة للصهيونية، لا تشارك في الانتخابات الاسرائيلية وترفض أي مساعدات من الحكومة وغيرها.
ولّد هذا بعض التوتر في علاقة العائلتين، بواقع عمل دانيال، ولكن الصبيتيْن لم تأبها بهذا بتاتاً.
و الذي ميّز صالحة عند ريتا أنّها -الوحيدة في عائلتها منتمية الى حركة سياسية تُدعى "ناطوري كارتا" أو بالعربية " نواطير المدينة" التي ترفض الصهيونية بكل أشكالها وتعارض وجود دولة اسرائيل...
كم يشبهها هذا !!
كنتُ متخوفة في البداية من أن أنتسب إلى أي حزب سياسي،.. فكرتُ ملياً بالأمر، أقنعتني صالحة بالحركة وأهدافها وفلسفتها، وجدتُ نفسي فيها. حين ملأتُ استبانة الانتماء، لم تكن صالحة معي، كنتُ أرتجف، وكنت لا أصدق متى سأعود لأهاتفها، وأزف لأبي خبر انتمائي لهذه الحركة. ستكون مفاجئة من العيار الجميل*.
غزة 2014
- نعم.. عليكم بالمنطقة صمن خطوط طول 160 إلى 165، هناك تكثّف سكاني للجماعة و عائلاتهم.
- تم ذلك يا دانيال.. اتصل بعائلتك ودعهم ينهون زيارتهم مغادرين القدس حالاً ويتجهون إلى حيفا، الوضع متأزم في هذا الوقت، و قد تصاب القدس أيضاً بموجة من هذا التأزم.
-حالاً.. انصرف!
لم تنم ريتا الليلة تلك أبداً، وجه صديقتها صالحة أنّبها طوال الليل، مخروق بالقذائف الساخنة، خرقاته سوداءٌ كسواد الحرب. كيف صمدت؟ كيف وقفت؟ كيف بقيت؟
تقول ريتا: كنت أقنعها طوال ليلة البارحة أن تترك غزة و تأتي إلى حيفا لتكون بمأمن من الأحداث الدامية فيها، كانت تلح أنها لن تغادرها قبل أن تطمئن عليها، ها هي ذي قد اطمأنت تماماً!
كيف استطاعت أن تنظر إلى وجهها هو بهذه الهيئة، اغتمُ أنا حين تظهر على وجهي بثور شباب عادية، و أنا اعلم أنها قصيرة الأمد وزائلة، كيف هي؟ والشظايا الساخنة قد أكلت من خدها الثلجي. ساعدني يا الله، خلصني من ثرثرة ضميري، لستُ أنا المذنبة، ولا أبي، ليس أبي.
ترمقها راحيل بنظرةٍ لا تفسّر، فيها من الخوف الكثير ومن التوجّس من أن تدلي بأي سؤال يربط لسانها عجزاً عن إجابته الكثير.. راحيل تعلم كل شيء!. تلت ريتا آيات قصيرة من التوراة محاولة بعث الطمأنينة إلى قلبها، ونامت على المقعد أمام غرفة صالحة في المشفى.
قتلتُكَ يا أبي!!
و حفاظا على الألقاب.."أبي كما لم تكنْ من قبل".
ريتا.. ابنتكَ المدللة قتلتْكَ يا أبي، المدللة لدرجة لا توصف ولا تشبّه بشيء، التي كانت لا تطلب طلباً إلا و يلبى لها؛ من طلبِها تغييرَ اسمها الذي يناديه بها الناس إلى ريتا عند افتتانها بأغنية مارسيل خليفة، إلى طلبها أن تسكن بيتَ جدها القديم في حيفا.
ابنتك الوحيدة سمعتْكَ يا أبي، كنتَ تصرخ ليلاً، الليل شاهد عليك، ربّ موسى شاهد عليك! " اضربوهم، F16، الأوغاد، سينتهي أمرهم، حي الشجاعيّة".
صالحة من الشجاعيّة، رفيقة دربي، التي أمسكت بيدي نحو منعطف جريء قلب حياتي رأساً على عقب، صالحة التي كانت كغيمة، تماماً كوجه المرابطات بالقدس، ماتت بقذائفكم!!
ابنتك الجميلة –كما كنت تخبرها- شاهدتك يا أبي، حين احتفلتم بعد تدميركم أحياءً من قطاع غزة، وأقمتم حفل عشاء لتكريم القادة المتميزين، رأيت تميّزكم في وجه صالحة!. شاهدتك على التلفاز بالقميص الذي كويته لكَ الليلة الفائتة.
ابنتكَ الكبرى صارت كبيرة يا أبي و صار لها الحق أن تنتمي لأحزاب و حركات سياسية. أتذكُرُ يومها؟ كنت متشوقة لأعود وأخبرك بأنني صرت ناطورة لفلسطين، وأنني سأكمل مسيرة جدي، لكنني لم أجدك، و قصة إصابة صالحة قد أجّلت جميع مخططاتي، كنت سأخبرك قبل الجميع، و لكنني تأكدت أن عدم معرفتك حتى النهاية كان من صالحي.
و كان من صالحي أيضاً أني كشفتُ حقيقتك قبل يوم تصويت الحزب على شنّ الغارة على تجمعكم بأسبوع[1]، حتى أثأر لنفسي، حتى أعرف ماذا علي أن أفعل، لأنتقم.
أنا التي قتلَتكم.. في الحزب ما يقارب الخمسة آلاف عضو،، انتسابي أنا و تصويتي على شن الغارة ، كان عن مئة صوت، لأنه غاضب، وحجته قوية، من أجل صالحة، صوتي كان كل الأصوات، من أجل حيفا التي أصبحت إسرائيل بوجود أشباهك، من أجل كذبك علي، وخداعك لي، خداعك لفلسطين، أنتَ لم تحبها لحظة واحدة، لم يثمر فيك يا أبي ما استنشقته من نسيم البحر، لم يثمر بك كلام جدي العظيم، الذي قرأتُه في الجرائد.
أنا التي سأصرخ اليوم -مُؤنّبةَ الحشد ، و ليس درويش: "هذا البحر لي، هذا الهواء الرطب لي".
سأعود إلى حيفا مع جثة صالحة، سأعود الناطورة المنتصرة، سأعودُ "ريتا دانيال موشيه" بدون الذي دُوِّن على سجلاتكم بـ "الشهيد دانيال موشيه".
قتلتكَ يا أبي، وداعاً يا أبي، أحبكَ يا أبي.
أحياناً.. نسير منقادين نحو طريقٍ بظنٍ ما ، وتخيب الظنون.. فنجد لاحقاً أن خيبة الظنون تلك كانت هي الفوز الأعظم..
__________________________
*النصوص المكتوبة بخط عريض هي صوت ريتا
[1] هذا الحدث غير واقعي، جرى اختلاقه لإكمال سير مجريات القصة، لم يسبق لهذه الجماعة شن غارات على أي مركز عسكري، أو إحداث عمليات شغب، بل كانوا هم من يتعرض للضرب في منازلهم من قبل جيش الاحتلال بسبب معارضتهم للكيان وامتناعهم عن التصويت.
التدوينات المنشورة في قسم "بأقلامكم" لا تعبر بالضرورة عن زيزفون