ثُلّة منَ الأولينْ - رُوّح مهاجِرة


قلم : سمية عبد الرزاق

 



علا صوتها وارتفع إلى الصياح، رفعت يدها لتلطمه على وجهه، ولكن سرعان ما تراجعت بذهول، وكأن قوة شدتها إلى الوراء، سكنت يدها في الهواء قليلاً، جمدت كالجليد، أمام ذلك الوجه الوضيء الذي تلألأ بالنور بمشهد مهيب، ذلك الوجه الذي نطق بالايمان وصرّح به، نعم، قال مصعب: "لقد أسلمت يا أمي، ولن أخفي الحقيقة بعد اليوم"، وشرع بتلاوة آيات خالدات من الحق المبين، بصوت عذب خيم على المكان فزاده رونقا وجلالاَ.

أيا مصعب..كيف هان عليك كل ذلك الدلال والنعيم الذي كنت تغرق فيه؟ تركت كل الثياب والعطور وتلك المكانة والحظوة بين شباب أهل مكة أجمع، كل ذلك لتكون بصحبة الحبيب صلى الله عليه وسلم وبدأت منذ إسلامك بمشوار الدعوة، ذهبت إليه طالباَ الحقيقة صادقاً الرغبة.

لم يكن بيد أم مصعب "خنّاس" أيُّ حيلة فلقد وقف شامخاً كالجبل، أمام قراره بلا تراجع ولاتردد! فما كان منها إلا أن تزجه في غرفة قصية من بيتها ظناً منها أنه قد يتراجع عن قراره، ولكن.. بلا فائدة، وبطريقة ما أنسلّ من غرفته، لاحقاً بقافلة المهاجرين إلى الحبشة، فارّاً بدينه، تاركاً جميع ما يملك من أجل هذا الدين العظيم، ثم بعدها بفترة، عاد والتحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فخرج يوماً على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما إن بصروا به، حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم، وذرفت بعض عيونهم دمعاً شجياً، ذلك أنهم رأوه يرتدي جلباباً مرقعاً بالياً، وعاودتهم صورته الأولى قبل إسلامه، حيث كانت ثيابه كزهور الحديقة نضرة وعطرة، تمّلى النبي الكريم به جيداً، تملّى مشهده بنظرات حكيمة شاكرة، محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامة جليلة، وقال: " لقد رأيت مصعباً هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حباً لله ورسوله ".

هذا هو مصعب بن عمير، الذي ضحّى بحياته كلها لأجل رفع راية الله خفّاقة بكل ما أُوتي من قوة، فلم يكتف بنشر الإسلام بل تاقت نفسه للشّهادة، فكان ممن حمل اللواء في معركة أحد، وكان ممن دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم حتّى استشهد، سنة 3 للهجرة، فكان مثالاً للشاب الذي حمل الإسلام بين عينه ووفى بعهده، حتى صعدت روحه المهاجرة إلى بارئها راضية مرضية، رضي الله عنه، وجمعنا به في عليّين !

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا

الأول
تعليقات فيسبوك
تعليقات بلوجر