قصة قصيرة
بقلم : بتول الطاهر
-أنتِ فلسطينية؟ -نعم.
-أنتِ يهودية؟ -نعم.
حيفا- فلسطين-1945م
"موشيه" يدخن النارجيلة متجلّياً، و"صوفي" تجاوره جالسةً و غير جالسة؛ متأهبةً لتجيبه إذا ما طلب شيئاً. الساحة أمامهم تضجّ بالصغار، أبناء جيران الحي ومعهم ابن موشيه الوحيد "دانيال". يصيح بتسلّط أبٍ حنون: "احترس بابا، لا تقترب كثيراُ من البحر". كان هذا البحر يأمل أن يثمر بهم ما استنشقوه من نسيم نقي، لا مكان على وجه الأرض هذه بإمكانه أن يَهِب نسيماً مثله، لا مكان سوى بحر حيفا..
عائلة موشيه تعدّ من أقدم العائلات اليهودية في منطقة فلسطين ودول الجوار، كان جد موشيه أحد المعارضين للمؤتمر الصهيوني الذي عقد في مدينة بازل السويسرية عام (1897) فقد كتب مقالة يعارض فيها توصيات المؤتمر التي أكدت على إيجاد وطن لليهود.
كان المجتمع في حيفا مجتمعاً منسجماً ومتوافقاً لأبعد الحدود بالرغم من تنوع مشاربه الدينية والعرقية، وكأنه لوحة فسيفسائية، كان جمالها في تآلف اختلافها. كان المسلم يسمو في جمعته، واليهودي في سبته، والمسيحي في أحده. بكل احترام ودون مبالغة.
جاءت النكبة وغيّرت حتى مسار الغيم، غيرت الجمال والقبح، عكست ما كان مسلّماً أنه ثابت وباق كبقاء البحر ذاك. عندما كُشف المخطط الذي بقي سرياً لسنوات طويلة، والذي كان ينصّ على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين والذي كان وراءه أربعة طلاب يهود، اختلطت المفاهيم واندمجت، ولم يعد بعضنا قادراً على أن يعيَ الفرق بين لفظة "يهودي" و لفظة "صهيوني"، ربما لو قررنا أن نفكر بمقدار ضئيل أكثر من تفكيرنا حين نحصي الفروقات العشر بين صورتين في جريدة لكان الأمر حينها على ما يرام. !
اليهود في الداخل.. كيف سيكون موقفهم؟ كيف سيواجهون العيون الجاحظة تلك؟ الحمراء كأنها اختزلت داخلها كل الدماء التي سالت في حرب النكبة؟ هاجر بعضهم خجلاً، وانطوى بعضهم على نفسه وعلى ذكرياته العتيقة التي لا يمكن ان تشبّه إلا بجمال بحر حيفا.
عائلة موشيه بقيت هناك.. إلا أنها رفضت بحزم وقوة عملية التجنيس الاسرائيلي، -لا وجود لدولة إسرائيل- هكذا كانوا يقولون. كما رفضت أيضاً أن تترك حيفا إلى أي مكان اخر، قاومت ذلك بثبات، وعلى قلب رجل واحد فترة طويلة من الزمن. إلا ان ذلك حتماً لم يكن من مصلحة الدولة الإسرائيلية، فرفْض أحدٍ من رعاياها الجنسية سيولد حتماً خللاً وفراغاً قانونيْين، فما فتأت بالضغط عليهم حتى أجبرتهم على التجنّس في الثمانينات من القرن العشرين. تسلّم موشيه جنسيته المشؤومة يوم الجمعة و مات يوم السبت، يوم سموّه المنصرم، يوم عزّه!
- ريتا: بابا ألن تصطحبني معك لأصوّت أنا أيضاً؟
- دانيال: بقي أمامك سنةً واحدة يا بابا حتى تصيري في السن القانوني للإنتخاب، اصبري سنة واحدة و بعدها ستستطيعين أن تشاركي بصوتك في انتخابات الكنيست.
كبر دانيال و كبرت ابنته ريتا..
خرج دانيال و زوجته راحيل معاً و بقيت ريتا وحدها تحتسي فنجان قهوتها مع قطعة حلوى كبيرة أمام البحر في منزلهم في حيفا، نفس منزل طفولة دانيال، الذي تمكّن من شرائه حين بدأ العمل في وزارة الدفاع الإسرائيلية، وحمل وعائلته الهوية الإسرائيلية العسكرية، كان له فقط أن يختار أي بيتٍ يريد!
وقعت عينا ريتا أثناء شرودها على الدرع الكبير المثبّت على الحائط، والذي يثبت أن دانيال يعمل في الجيش، اغتمّت.. ورجعت في الذاكرة إلى أول يوم دراسي لها هنا في حيفا.. سألها الطلاب:
- أنتِ فلسطينية؟
- نعم.
- أنتِ يهودية؟
- نعم.
-وبدأوا يتهكمون شأنهم شأن الأطفال في عمرهم، وحدها ريتا أصيبت بنوبة صمت وخيبة.
سألتْ والدها فور وصولها: "لماذا تهكم عليّ الطلاب بهذا الشكل؟" أجابها وغضبه قد وصل حدّه: "عربٌ أوغاد! سأنقلك الى المدرسة التابعة للقيادة، كنتُ مخطئاً حين قررت ان أبقيك بين العرب للحفاظ على هويتك الفلسطينية،، فلتذهب الهوية الى الجحيم".!!
عندما يصرخ دانيال لا مجال للكلام حتى.. طوت ريتا تساؤلات كثيرة داخلها و قامت عن الطعام.
أنا أعلم الفرق الكبير بين أن أكون فلسطينية وبين أن أكون يهودية، الأولى جنسيةٌ يحملها الأشخاص في محفظاتهم تثبت أماكن سكنهم، و ما أكثر من يحملون جنسياتهم كحملهم كيسَ خضار، ليس بينهم و بينها شيء بتاتاً. أنا عن نفسي.. أؤمن أن حيفا هي فلسطين و القدس هي فلسطين والبحر والساحل أيضاً. أما الثانية فهي ديانة، و ما أشد ما وقع على هذه الديانة من ظلم.
مقالات جدي قالت هذا، جدي الثوري الذي قيل لي أنه مات حزناً على ضياع الأرض، جدي الذي قال أن الارض هذه هي أرض الفلسطينيين، جدي الذي اعتقل سبع مرات بسبب كلامه. كنتُ بعد كل مقالة ألمحُ لي جذراً جديداً قد نما و توجّه نحو الأرض دون علمي، حاولت قول هذا لأبي أحياناً كثيرة، حاولت إخباره أنّني مكبّلة بالجذور ،لكنه كان في كل مرة يهزمني في النقاش..*
السؤال الآن: ماذا عن الصهيونية؟
سألتْ أباها مراراً و تكراراً عن القضية، هل نحن السبب في كل هذا الدمار الواقع على الفلسطينيين؟ أنت في جيش الدفاع، كيف تقوى على إلحاق الضرر في أهل بلدك؟ يجيبها دانيال حاسماً الأمر: "لست أرى الأرض هذه سوى فلسطين العربية، أنا أعمل في جيش الدفاع حقاً، لكن عملي هذا ليس له دخل أو شأن في كل الدمار الحاصل في غزة و المنطقة، عملي مقتصر على الشؤون الهندسية في الوزارة، أنا لم أفكر أن أعمل في هذا العمل إلا من أجلكم، ومن أجل حياة أفضل لكم. هل تعتقدين يا حبيبة بابا- يحضنها بين ذراعيه- أن بابا يستطيع أن يُقدِمَ على أي عمل قد يضرّ مصلحة أبناء بلده و أرضه، أو أن يساعد في مسح هوية الأرض هذه؟ طبعا لا".
تقودها ذكرياتها حين كانوا ذات مرة يزورون الحائط الغربي[1] للمسجد الاقصى زيارتهم السنوية، مرتدية لباسها اليهودي، مع أبيها المرتدي ال "كيباه"[2] وأمها العاملة أصلاً في تنظيم هذا الحدث السنوي إلى الحائط. ذهلتها صرخات المرابطات على أبواب القدس العتيقة: "الله اكبر.. الله اكبر"..!
ما بالهم! لسنا مقتحمين ولا مستوطنين، نحن فلسطينيون.. نحب مقدساتها و رموزها الدينية كلها، أبتهل عندما أرى ذهبية القبة و حين أسمع صوت الآذان. و كنيسة القيامة أجراسها قيامةٌ حقيقية، تربطنا بالأرض ربطا عصيًّا عن الفكّ.
في وجوه المرابطات تلك.. غيومٌ رمادية، لباسهنّ الأبيض يثير ريتا كثيراً، جذاب لدرجة جعلتها ترغب في الركض نحوهنّ وإخبارهن عن حقيقة أمرهم، أصواتهن فيها من الغضب الكثير، رقيقاتٌ لدرجة الثورة، جميلاتٌ كوجه موسى، فاتناتٌ كبحر حيفا، و مُبعداتٌ كماءٍ استسلم للجزر!
يتبع..
__________________________*النصوص المكتوبة بخط عريض هي صوت ريتا
[1] هو حائط البراق عند المسلمين، يزوره اليهود كل سنة و يبكون على دمار هيكل سليمان.
[2] كيباه: هي الطاقية الصغيرة التي يضعها اليهود على مؤخرة رؤوسهم
التدوينات المنشورة في قسم "بأقلامكم" لا تعبر بالضرورة عن زيزفون