رولا حسينات
أمعنت النظر في رمل الطريق والشمس الناعسة، تلملم رداءها الأحمر والرضيع في المهد، أي من نسمات الليل ستغني له؟
أصوات أعادتها للوراء:" لقد كبر بطنك يا بثينة، لا شك أنه موعد الولادة"، "الألم يزداد ، لا أستطيع التحمل يا صابر.."
"لكنك ستصبرين يا بثينة، لا تقلقي ستعودين للبيت والرضيع على صدرك."
الرضيع يبكي فرحاً بتقديمه قرباناً لأفواه البنادق والمسلحين..."الطفل يبكي كثيراً يا صابر."
تنفرج أسارير دموعها وهو يكاغي، وكأنما اتفقا على صيغة الحب الأول، صوت الجدة يقاطع لغة العيون: "تحضري لأسبوع الرضيع يا بثينة، سنغسله ونعطره ونضع له الحزام وسنبخره، أعلم أنك تتوهمين أن البخور صحراء من المتفجرات، ولكنك ستقطعين الماء أيضاً، لا تخش شيئاً، فلدي سبحة الألف ألف حبة، سنصلي والنسوة على النبي، لا تقلقي يا صغيرة الجدة زريفة لديها سبحة طويلة فيها ألف ألف حبة، اهتمي فقط بصرر الحلوى تفرحين بها قلوب الصغار..."
بصخب ما بارحت مكانها وهي تفرك اليدين: "سيأتينا الكثير من الزوار يا صابر، ولم أتم إعداد أي شيء."
" لا تقلقي يا بثينة فقط اهتمي بنفسك والصغير.."
الليل يهبط سريعا وطوفان الموت يقترب من البيوت، وأصوات البنادق تعوي كذئاب الليل، والكل نائم يحلم بالشهادة، ولكن الرضيع مستيقظ يكاغي، لما لا يبكي؟؟ لما فجأة توقف عن البكاء؟ أيريد أن يلعب لعبة الغميضة مع المستوطنين؟ لا يريدهم أن يكتشفوا مهده بسرعة، ليمهلوه بعض الوقت ليشرب الحليب ويتعلق بيد أمه، ليعدّ ضربات قلبها وليضحك، ليحبو ويطلع السلالم، ليشتري الحلوى من دكان أبي سالم عند المقبرة القديمة، ليذهب إلى الأقصى مع صابر ويسبح في سبحة الجدة زريفة، ذات الألف ألف حبة.
"أشم رائحة شواء بشري، يا ويلي..استيقظ يا صابر، إنها قرية الجدة زريفة إنها تحترق، لقد جفل الليل، ونجومه قد أفلت، وانبجس القمر شاحباً، أرسل نوراً ضئيلاً أكلته النيران المتصاعدة، أصوات النساء تتعالى فوق الشبح القادم ثم تخبو في نيمتها الأبدية، رصاصات المستوطنين تحملها الرياح ورائحة الشواء. قلبي يكاد يخرج من بين أضلعي، دعنا نذهب..، دعنا نخرج من الباب الخلفي إلى أقرب سيارة تقلنا والرضيع، ليعيش الرضيع بلا قيود ولا أسوار بعيدا عن رائحة الشواء."
امتقع وجهه حينها ونطق بغليل متأجج: "إنها أرضي يا بثينة وأرضك ألا تذكرين؟ ما لك تنسين؟ ألم نتعلم أن الأرض أغلى من الولد والنفس والروح؟ أم أن الرضيع أنساك إياها؟؟!"
ارتجفت: "إني خائفة.."
"لا تخافي أم الرضيع، فإما النصر وإما الشهادة، رددي معي أغنية الوطن..
بلادي بلادي بلادي ......لك حبي وفؤادي
أرضعيها للصغير وكاغيها له، علميه إيِّاها بألف ألف لغة، فللوطن لغات عديدة يفهمها كل من دبت قدمه على الأرض"
الليل يكاد يطوي أستاره ويكشف النهار عن خيوطه البيضاء، وأنفاسها المختنقة محمومة غدت وقطرات العرق تتصبب على الجبين..
لوحة القلب قد تغيرت ولفحة من الأمل تسللت بينهم، هاهي تتحرك تنتفض وهي تصرخ في أعماقها: "آه، لا، لا دعوه لي، إنه صغيري وليدي الوحيد، دعوه يحبو ويكاغي ويتعلم حروف الوطن، لينقش اسمه على صدره ترسا يتلقى فيه الرصاصات"
فزعة تجر رداء السرير الأبيض، صابر يلهث وراءها ورائحة الشواء وألسنة اللهب تتراقص في حجرة الوليد، تلتهمه في المهد وهو يكاغي، لم يتعلم كيف يجري، لم يتعلم أن ينطق الحروف، ولا نطق الله أكبر..
صرخت بأعلى صوتها المبحوح:"دعني لا تمسك بي، فألسنة اللهب تداعبني فليس الرضيع أشجع من أمه، ماذا سيقولون حين أبعث خلقاً جديداً؟؟ رمت بابنها في اللهب ومضت إلى البرد والسلام، صغيري لا تغادر وتتركني، دعني لتلتهمني النيران وإياه يا صابر، أتدرك أنك ستحترق معنا، سنحترق وليرقص المحتل على قبرنا، على درج بيتنا، في غرفتنا هذه وعلى رمادنا في البيارات، فما لنا من آلهة وما لنا من معابد وليس لنا آلهة دون الله لنعبدها كأمثالهم، لكني فقط أقول الله أكبر..."
خمد الجسد على السرير الأبيض، أرفعوا جهاز التنفس فقد توقف القلب.
التدوينات المنشورة في قسم <بأقلامكم> لا تعبر بالضرورة عن زيزفون