خزامى عبابنة
ألقت بقلمها على الدرج أمامها، وزفير الحرب لم يغادر أذنيها بعد، التهمت الضوضاء وغشاوة بيضاء تغشى ما تبقى من نور عينيها، المرايل الزرقاء من حولها لا تنهض ذكرى الساحل، ولا تمطرها الغيوم الصيفية.
لم تعرف كيف بدأ كل شيء، لم تفهم أي شيء مما قيل حولها، أن هناك حرباً من نوع آخر يذهب ضحيتها الأطفال، أمها مسها الجنون، أخذت تحزم الأمتعة، وقطرات العرق تهطل باردة من جبينها، أبوها يجهز القبو مع جيرانهم، انسلت من بينهم لتبصر المأوى الجديد، حيز صغير يفي بالغرض، جارتهم سعاد تحوقل وهي تضرب الكف بالكف، رائحة الرطوبة اقتحمت أنفها الصغير، والعتمة كانت سيدة المكان، رمقها، فأسرعت لتساعد في حمل الأمتعة، لم تلبث أن ولجت من الباب حتى كان صوته مهزوزا يأتيهم من الخلف: "لقد بدء القصف أسرعوا"، لم يكمل أحدهم ما بيده، كانت الصورة ترتج أمامها، وكلهم يهرلون إلى الأسفل.
أصواتهم من حولها تناديها: " ندى، ندى"، من تحت الركام تبصر شعاع النور ينسل إليها هزيلاً، ورائحة الموت تزكم أنفها، وصورة الدماء والرماد تغطي جسدها.
الألم يلفها، تراود نفسها عن الصراخ الأخرس، يتراكضون من حولها، ضوضاؤهم وهدير الحرب والأنوار الحمراء والزرقاء تتراقص أمامها في غشاوة بيضاء كنهاية مفتوحة، الغشاوة التي غطت عينيها والضمادات التي غطت الكثير من جسدها وتلك القدم المبتورة والعويل في القاعات المليئة بالجرحى والجثث، لم تكن لتمنحها رغبة في الحياة بل كانت عبئاً أخرى تثقل كاهلها، الزرقة فارقت السماء وهوت الطيور والمآذن والأبرياء.
أحلامها المرصعة فوق جدران غرفتها، أنفاس عصافيرها الملونة ونجومها الذهبية، قصفتها طائرات تحلق فوق ارتفاع منخفض، تهوي بحلوى العيد وتنهش الأجساد الغافلة، صوت أخيها يأتيها من شرفة منزلها: "تعالي، طيور كبيرة تحلق فوق بيتنا، إنها تلقي بحلوى" لم يتم الصغير كلماته وقد سقط في الرماد، دوي القنابل والصواريخ غيبها عما يدور حولها، يدها لم تستطع أن تمسك بيده وهو يهوي، والأرض قد لتبتلعهم وسط الجحيم، يدغدغ مسامعها صوته: "حلوى"، أبصرته وهو يشير إلى السماء الزرقاء والطائر الكبير يحلق فوق البيوت الآمنة هدايا تمطرها السماء إنها حلوى العيد.
اهتز كل شيء، لم يتشبثوا بيد الحياة، جيرانهم، صحبة الطريق، مدرستها، عم سامح وحبات الطماطم الحمراء المستديرة، أجراس الكنائس، مئذنة حيهم، جميعها غابت عن مشهدها اليومي، كلها هوت معا، ما عادت تقوى على إدراك أي شيء، كتب الجغرافيا وعلم التضاريس سويت بالأرض لم تعد هناك أي تفاصيل تذكر، صوت أمها يرن في أذنيها: "ندى أحضري الخبز"، أخوها الصغير يتشبث بثوبها الوردي وهو لا ينفك يحلق بطائرته الصفراء الصغيرة، عينه تسبقه في الكلام، تلك الاستدارة تمنحه مزيداً من الحب وقبلة ساخنة، "ولك على حسابي حبة حلوى"، يلحقهما صوت أمهما: "لا تطيلا المكوث في الخارج الجو يزداد برودة إنه تشرين"، لم يتوقف الصغير عن الكلام واللهاث وراء طائرته المحلقة في يده على ارتفاع منخفض، يتناول حبات الحلوى يحشو بها طائرته ملونة براقة "أريدها أن تمطر حلوى"، رائحة الخبز ورائحة الاطمئنان تعزف على أوتار أمنية الصغير بحلوى العيد.
أفاقت سريعاً على صرخات من حولها، انتشلتها يد ما حملتها بسرعة، وضربات قلبه من تزفها، ودوي القنابل يهز جدران المكان، فلا ترجع إلا صرخة الموت، غابت عن الدنيا وهي ما زالت تلهث : "ندى اكتبي على السبورة" أرادت أن تتصالح مع الحياة وأن تتحالف مع القدر بهدنة ما، تحمل أي رسم يضمن لها الأمان، أرادت أن تكمل رسمها وتملأ الفراغات الكثيرة، لكنها هزيلة، سقطت، لم تكن قدمها الواحدة لتمنحها فرصة الصمود فقد هوت.
عويلها، الركام، الضجيج، الغشاوة فوق عينيها جعلتها تدور في دوامة الحرب من جديد، لم يعد جسدها طوعها، فقد انتفضت كما انتفضت الأشلاء المبتورة، وعادت لتحمل الرصاص من جديد، كما يهوى صبية حيهم لعبة الحرب، تمسك بذيل أحلامها و دميتها ذات الرداء الوردي، المطرز بقطعة ذهبية وشريط أحمر يزين شعرها الأشقر، لكنها عبثاً تمضي في طريق مسدود تجر قدمها المبتورة، لم يتبق منها غير الشريط المقطوع والطيف البعيد:
-"لم تفق بعد؟"
-"لا أدري!!"
أفاقت ودويّ القنابل يداعب أذنيها، وهي تتراقص على أوتار الفزع، "هاهي قد فتحت جفنيها، الحمدلله أنك بخير، ذهبت عنك الحمى"، نظراته الهاربة من المكان تشعرها بالخوف، المزيد من الأنفاس حولها تنتهي بنحيب، كل الأماكن هي هدف للقصف، الهروب إلى حيث السماء الزرقاء هو الأمل، لم تستطع بلع ريقها، تناولت شربة الماء وابتلعتها ككوز صبر، لم تتكلم ولكن وخز الرصاص في الخارج والأصوات العالية انتهكت حرمة ملاذهم، قدمها المبتورة وجسدها الوهن لم يساعداها على الفرار، الكثير من النساء كن حولها عندما دار مصباح يدوي في الظلام، ضحكات مجنونة هي التي كانت تقودها مع الكثيرات وهن مكبلات الأيدي، أغمضت عينيها عندما رأت النور الملبد فيه الرماد، لكنها أدركت أنهن أصبحن اليوم سبايا لهؤلاء، ومن فوقهم القصف يسوي لهم الطرقات.
لقد كانت ضمن عشرات من العيون المليئة بالدموع والأجساد المرتجفة، لقد بكت الكثير لن ينفعها أي صبر حتى وإن كان صبر يعقوب وأيوب معا.
لم تصدق عينيها وهي تقرأ ما كتبته سلمى على باب حجرتها بخط أنيق"هنا شقيقتي من سورية ندى" أخيرا وجدت ملجأها بعد أن أضناها التعب، عن أي حرية مغتصبة ستسأل؟؟ أتعدو؟ أتتسابق والرمال لتلتهم الضوضاء، صبرها ووعثاء الرحيل؟ أتبارح طفولتها على عجل؟ وتنهب مسيرها كيتيمة مبتورة القدم؟؟ وقد مرت على ديار الأحبة مودعة، فكل الشوارع وجهتها وكل الأرض قبلتها، وكل البيوت ضالتها، سلمى جعلتها شقيقة لها آوتها إلى حجرتها وقاسمتها سريرها البني، ضحكاتها امتدت إلى ما وراء الأفق، لكنها بقيت تجري في متاهة لم تفارقها ، لم تحررها بعد.
لقد شاهدتهن وهن يُصلين الصلاة الأخيرة قبل الذبح، كان بكاؤهن يبكي السماء، لكنها لم تبك سوى البراميل والصواريخ، دورها قد حان لكنها لن تذبح، همست إحداهن:"سنعلن العصيان، سنضربهم، سيصفعوننا، ستعمُّ الفوضى، قبيل الظلام تكونين قد غبت في رمال الصحراء" قدمها المبتورة والمارون على رمل صحرائها دونوا بدمائهم اغتصاب أحلامهم البكر وهي ذابت وإياهم في الغياب، في زمن ما كانت تهوى كتب الرعب ورواياته ولعنة الساحرات، أكن هن من يُسيرن لعبة الحرب وقرصنة الموت في بلادها؟ لم تعد تهوى الصور الملونة فقد اختزلتها باللون الأسود، تتسابق والكثبان الرملية والأقدام الفزعة، لم تعد الألوان تستهويها لقد هوت من مستطيل الصورة إلى سجن بلا حدود، النور السماوي خبأ وقد زاحمه رماد الحرب، دويّ القنابل والسماء الملبدة بغيم أسود تتبعهم بحلوى العيد بل ببراميل منها، لم تعد تقوى على النظر للخلف وهي تذوب كتمثال ملحي، عرقها يثير لذة الألم في قدمها المبتورة، لم تعد تستطيع رؤية جسدها وهي تزحف على غير هدى كثعبان أصم على الرمال الملتهبة، إلى من ستمد يدها وقد دفنت كل رفاق الأمس؟؟ الموت بحر تبحر فيه بلا سفن و زوارق وقد أضاعت طوق نجاتها، لحظة هي بين الموت والحياة التي تتراءى بغشاوتها أشباحهم أم لصوص الحياة أم خزنة جهنم؟؟ أيا كانوا فهي بين يدي أحدهم، هل ستكون بعد هذا بأمان؟؟
لقد تعلمت أن ترسم للغياب صوراً كثيرة باللون الأسود مع فسحة صغيرة من البياض، لكنها عندما رسمتهن، رسمتهن بكل الألوان، سعاد وسلمى، هيام وسحر وأسماء أخرى قد أنستها في مخاضها العسير لعبة الغميضة، وهي بالكاد تتراقص ذبالتها الناعسة أمامها، لعبة الشطرنج صارت ضالتها، إنها لعبة الحرب والانتصار، منطق المنتصر لن يهزمها، لن يهرم أيامها وكتابها، ستمضي وعيناها معلقة بالماضي، ومازالت ضوضاء الحرب شرخاً في ذاكرتها، كأوراق خريفية، تساقطت أحلامها مبكرًا وغاص لهاث الصغار وراء الشمس الأرجوانية، وأناشيد الحرية مازالت تصحو وتنام، كان عليها أن تتذكر فاتورة فقدانها لأهلها ويتمها، ليس بين الحرب والسلم خط فاصل لتذوب الأرواح في هدنة.
غاليليو قد اخطأ حتماً عندما جزم أن الأرض تدور في فلك الشمس، لكنها لم تكن كذلك، لم تكن الأرض كما زعم، بل كانت بلادها من تدور في فلك الموت والقصف يقتلها حيث يشاء، بقيت تبحث عن ماضيها عبثاً، وحيدة عند شجرة الخروب التي تحمل غرابيب سود ووحشة المكان، أنهكها السعي وراء فلول النهار وصفحات الليل تهوي سراعاً لتغلق ما تبقى من فهمها، ولكن من حولها يقدمون لها طبقا مزركشا نقش عليه"نحن معك".