بأقلامكم - الصفيح المحترق (1)


رولا حسينات

 


لملم أشلاءها الممزقة وطار بقدميه لا يثنيه وقع القنابل ولا القصف، وأيٌّ مما يحيطه من بقايا أناس قريته، اصطكاك قدميه والدم المنشخب منهما، والمترهل من بدنه قد تعرى مما تمزق من قميصه المائل للصفرة، ولكنه قد مال لحمرة قانية...

صوتها يصيخ في أذنه:" كامل الشيخ عبد السلام رزق بولد ليلة أمس حين غاب الديك عن الصياح، كان وليمة حساء لزوجته نصرية.."

أومأ برأسه وقد فهم، لما فاتته صلاة الفجر؟؟ فقد أولم الشيخ عليه حساء لزوجته النفساء، ولكنه لم يولم اليوم؟؟ قطعت حبل أفكاره وهي تحمل حقيبته، وشفتاها المكتنزتين ما زالتا تتحركان بصفوف الكلام:" لقد شحذت لك السكين، قول الله على رزقك ورزق العيال.."

نظر على احتراز حوله، دار صامتا في نفسه:" العيال، كم تحبين ترديد هذي الكلمة يا زريفة؟"

تمتم في نفسه وهي تلهو بجديلتها وتلملم شعراتها الشقراء عن جلبابه الأزرق الذي يغطي ثوبه البني يرتديه في الشتاء، وفي الصيف يعدل عنه لقميص مائل للصفرة..

" وهو الذي تمزق من ثقل جسدك، زريفة تحبين الزلابية الممتلئة بالقطر وتتوهمين أنه الوحام لقد تورد وجهك زريفة، صرت يا امرأة أحلى وأجمل، ما أحلاها يدك الزبدة عندما تدفعين بها جسدي، فتظل تعمل فيه دوائر من الذبذبات.."

ولكن الحي معتم هذا الصباح وبيت الشيخ عبد السلام بلا أفراح ولا زغاريد، أتراها حلمت بمنام زريفة وروته له حقيقة، ولكن الوجوه عابسة تطل إليه تتمايزه وهو يحمل حقيبته، وفيها عدة الرزق: الموس والقطن والمطهر والشاش..، ولكن العيون الحانقة تشكه في الأرض كدبوس وما يرمقه من تحت أكوام اللحم المتهدل على الجفن، تنخزه نظرات الشيخ فتحي..

"عجباً ما لي لا أكاد أفهمهم اليوم نهاري عدم، دون صلاة الفجر، ولا عجب أن زريفة شكت من شخيري.. يقيم الميت من بعد الممات.." تمتم حين تعلقت قدمه بالخف البلاستيكي الأزرق أول درجات الدار الخمس، كانوا جميعا مطأطئين الرؤوس، لا أحد يريد أن ينبس بحرف، سلم وإجابات متلعثمة ردت عليه بفتور هنا، واكتفت بالإنصات هناك..

غفت الشمس في مكانها فلم تبارحه طيلة ساعات من بعيد صحوتها..

"اليوم غريب.." همس وهو يلوح بيده كمروحة ليزيح الثقل عن صدره، أصوات النسوة شق جدار الصمت صياح وعويل، وأرجع الرجال أصداءها وأخذت تتقلب أكفهم ذات اليمين وذات الشمال..تلهج ألسنتهم:" لا حول ولا قوة إلا بالله، لحقت بالولد.."

أدرك كامل المطهر أن الولد قد مات فجراً، ولحقته أمه بعد ساعات حين أكتفت الشمس بوشاحها الأسود، وبينهما أولم على الديك، وما استيقظ لصلاة الفجر.."

ومن بعيد دوى انفجار كبير رج الدار وتخلخلت عظامهم من مفاصلها، والدخان الأسود بدا يعتلي أسطح المنازل عند البيرة وهم في قريتهم دير نظام على بعد ساعتين من قلبها ومساكن الأتقياء والشيخ يوسف، بالسيارة المتهالكة التي يبقي أبو جابر يومه يحركها على المناويل، وفوق ذلك يكدس فيها الكتل البشرية فوق بعضها، مع أكوام البيض وأقفاص الدجاج البلدي، ولم يكن هناك ديوك غير ديك الشيخ عبد السلام الذي قد ذهب ضحية لوليمة بفرح مسروق، والمنسوجات تتطاير عند كل عثرة في الطريق الترابي، وصياح الحاجة رملية خوفاً على منسوجاتها يتراشق مع بعض التعنيف، كل منهم يريد أن يعرض ما لديه في السوق الكبير عند الجامع القديم وبير الماء، وفرصة للتبرك بقبور الأولياء الشيخ شيبان والشيخ يوسف، ولكن سالم دوماً يجلس القرفصاء بمؤخرة السيارة الصالون مع أكوام الأقفاص، دوما متكتلاً على جسده قابع في صمت دفين، النظرات تمزقه.." مال سالم والبيرة؟؟ أين يذهب ساعات يختفي عن أنظارهم وهم يحملون بضائعهم، كأنه فص ملح وذاب؟؟!"

ولكن زريفة دوما تقول عند سالم حكاية وحكاية كبيرة كثير، عندما ذهبت وكامل للتبرك عند الشيخ يوسف ولتشرب من ماء الحياة عند البير، وما تزال تذكره في كل حين وهي تحرك السكر في استكانة الشاي، قبل الخلود للنوم دوما تقول:" جدتي أم الحنايا، كانت داية والنسوان يشكون قلة الحمل والخلفة فتنصح بكوب الشاي الثقيل قبل النوم.."

لكن كامل لم يجد علاقة منطقية بين كوب الشاي الثقيل والخلفة، وزريفة تعشق العيال في باكورة كل صباح تفتح قن الدجاجات وتتفقد منهن من فقست بيضها ومن لم تفعل، فتهرع ببقايا كسر الخبز المبيت المشبع بالماء، تضعه أمامها لتطعم صيصانها..

زريفة لم تكمل الثامنة عشر وتزوجها كامل وهو في أواخر الثلاثين، فقد مات والديها في طريق العودة من تجارتهم بالدجاج على طريق البيرة، بتفجير قنابل نسفت الطريق ومن عليه قيل:" لم تكن هناك أشلاء لتجمع، فلم يدفن أحد حينها.."

يتبع >>

التدوينات المنشورة في قسم <بأقلامكم> لا تعبر بالضرورة عن  زيزفون

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا

تعليقات فيسبوك
تعليقات بلوجر